مفهوم التنمية المستدامة


 

يبدو أن التنمية المستدامة هي التي تصيغ اليوم الجزء الأكبر من السياسة التنموية المعاصرة وقد كان للعمومية التي اتصف بها المفهوم دورا في جعله شعارا شائعا وبراقا مما جعل كل الحكومات تقريبا تتبنى التنمية المستدامة كأجندة سياسية حتى لو عكست تلك الأجندات التزامات سياسية مختلفة جدا تجاه الاستدامة، حيث تم استخدام المبدأ لدعم وجهات نظر متناقضة كليا حيال قضايا بيئية مثل التغير المناخي والتدهور البيئي اعتمادا على زاوية التفسير، فالاستدامة يمكن أن تعني أشياء مختلفة، بل متناقضة أحيانا، للاقتصاديين، وأنصار البيئة، والمحامين، والفلاسفة. ولذا يبدو أن التوافق بين وجهات النظر تلك بعيد المنال.

فهي نظرية في التنمية الاقتصادية و الاجتماعية تجعل الإنسان منطلقها و غايتها . الشرط الأساسي لتحقيقها هو الطاقات المادية . هدفها ليس فقط الزيادة في الإنتاج و إنما تمكين الإنسان من العيش في حياة أفضل و أطول. و حاجات الإنسان ليست كلها مادية بل كذلك معنوية و اجتماعية نجملها في: التعليم و الثقافة و توفر فرص لممارسة النشاطات الخلاقة و حق المشاركة في تقرير الشؤون العامة و حق التعبير و الحفاظ على البيئة لأجيال لاحقة.

وتقوم على أربعة عناصر أساسية هي :

– الإنتاجية ( قدرة الإنسان على الإنتاج)

– المساواة ( تكافؤ الفرص دون تمييز )

– الاستدامة ( عدم إلحاق الضرر بالأجيال اللاحقة)

– التمكين (التنمية تتم بالناس و ليس من أجلهم فقط أي: الناس فاعلون) هكذا تعزز التنمية قدرة الإنسان على تحقيق ذاته فيصبح هدفا و وسيلة في آن واحد ، انتقلت في الستينات من القرن العشرين إلى حقل السياسة لتهتم بتوجيه البلدان نحو الديمقراطية لمسايرة الدول الصناعية ، و زادت تطورا لتشمل حقل المعرفة و الرفع من مستوى الثقافة فظهرت تنمية اجتماعية و بشرية لدعم قدرات الفرد من أجل تحسين أوضاعه في المجتمع و قياس مستوى معيشته.  فالإنسان سيد الطبيعة هوالذي له الحق في تغييرها لصالحه .

فشهد العالم خلال العقود الثلاثة الماضية إدراكا متزايدا بأن نموذج التنمية الحالي (نموذج الحداثة) لم يعد مستداما، بعد أن ارتبط نمط الحياة الاستهلاكي المنبثق عنه بأزمات بيئية خطيرة مثل فقدان التنوع البيئي، وتقلص مساحات الغابات المدارية، وتلوث الماء والهواء، وارتفاع درجة حرارة الأرض(الدفء الكوني)، والفيضانات المدمرة الناتجة عن ارتفاع منسوب مياه البحار والأنهار، واستنفاد الموارد غير المتجددة، مما دفع بعدد من منتقدي ذلك النموذج التنموي إلى الدعوة إلى نموذج تنموي بديل مستدام يعمل على تحقيق الانسجام بين تحقيق الأهداف التنموية من جهة وحماية البيئة واستدامتها من جهة أخرى. ولذلك فإن شيوع فكرة التنمية المستدامة في أدبيات التنمية السياسية منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين مثل في جزء منه محاولة لتجاوز إخفاق النظرية السلوكية في مجال التنمية، التي تبنت نموذج الحداثة، والبحث عن نموذج جديد يعمل على التوفيق بين متطلبات التنمية والحفاظ على بيئة سليمة ومستدامة.

أما على المستوى السياسي فقد بدأ المجتمع الدولي، منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي، يدرك مدى الحاجة إلى مزيج من الجهود السياسية والعلمية لحل مشاكل البيئة وعندها أصبح مفهوم التنمية المستدامة يمثل نموذجا معرفيا للتنمية في العالم، وبدأ يحل مكان برنامج “التنمية بدون تدمير” Development without Destruction الذي قدمه برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP في السبعينات ومفهوم “التنمية الإيكولوجية” Ecodevelopment الذي تم تطبيقه في الثمانينات.

وتحاول حركة الاستدامة اليوم تطوير وسائل اقتصادية وزراعية جديدة تكون قادرة على تلبية احتياجات الحاضر وتتمتع باستدامة ذاتية على الأمد الطويل، خاصة بعدما أتضح أن الوسائل المستخدمة حاليا في برامج حماية البيئة القائمة على استثمار قدر كبير من المال والجهد لم تعد مجدية نظرا لأن المجتمع الإنساني ذاته ينفق مبالغا وجهودا أكبر في شركات ومشاريع تتسبب في إحداث مثل تلك الأضرار. وهذا التناقض القائم في المجتمع الحديث بين الرغبة في حماية البيئة واستدامتها وتمويل الشركات والبرامج المدمرة للبيئة في الوقت نفسه هو الذي يفسر سبب الحاجة الماسة لتطوير نسق جديد مستدام يتطلب إحداث تغييرات ثقافية واسعة فضلا عن إصلاحات زراعية واقتصادية.

مشكلة الدراسة

ففي النصف الثاني من القرن العشرين تبنت غالبية الدول الصناعية المتقدمة طريق التقدم المتنامي في العلم، والتقنية، وأساليب الإنتاج مما أدى إلى بروز ما أصبح يعرف بمجتمع المعلومات أو المجتمع ما بعد الصناعي الذي لم يعد يعتمد على نشاط الأفراد ولا على المجتمع ككل بقدر اعتماده على فرضية قدرة البشر على السيطرة على ذلك التقدم. وقد أرتبط تدشين مجتمع المعلومات هذا في الدول الصناعية المتقدمة بهيمنة فكرة “التفاؤل التقني”” التي بشر بها نموذج الحداثة التنموي والتي  تفترض أن بزوغ فجر عصر التقنية يمثل إيذانا بعصر خال من المشاكل سواء في المجال الاجتماعي أو الاقتصادي، فضلا عن المجالات الأخرى ومن بينها المجال البيئي. إلا أن التطورات غير المنضبطة المصاحبة للتقدم الصناعي قد أسهمت من جانب أخر في تنامي سلسلة من المشاكل ذات الطابع البيئي، حيث أضحت قضايا التدهور البيئي، والتصحر، والفقر، وعدم المساواة الاقتصادية، والدفء الكوني، والانفجار السكاني، وتزايد معدلات انقراض الكائنات الحية بشكل مخيف، والأمطار الحمضية، واستنفاد طبقة الأوزون، وتلوث الماء والهواء والأرض تمثل واقعا مؤلما ملازما للحياة في العصر الحديث وخاصة مع تعزيز نموذج الحداثة المعولم والتقنيات المتطورة لقدرة البشر على الأضرار بالبيئة وببعضهم البعض بوتيرة لم يسبق لها مثيل.

وبسبب تعاظم خطر تلك المشاكل من جهة وتقلص نسبة الموارد على الأرض وإضعاف قدرتها على تجديد ذاتها من جهة أخرى فإن هناك حاجة ملحة لترشيد التعامل الإنساني وذلك لأن نموذج الحداثة القائم الذي يعمل على الإيفاء بالاحتياجات المادية الحالية مع تجاهل تام للبيئة وللمستقبل لم يعد ملائما ولا كفؤا على المدى الطويل.

نموذج الحداثة والتدهور البيئي

يشير التدهور البيئي الذي حدث معظمه خلال القرن الماضي إلى أن النموذج الاقتصادي المهيمن (الليبرالية الرأسمالية) هو “اقتصاد استخلاصي” يستنفد الموارد غير المتجددة، ويستغل الموارد المتجددة بدرجة أكبر من قدرتها على البقاء، ويتسبب في تغيير كيمائية الأرض وتشويه النظم البيئية عليها متسببا في حدوث أضرار لا يمكن إصلاحها لكل من الأرض والماء والهواء.  ولذا يمكن القول أن الاستغلال المفرط والتدمير المصاحب للتنمية هما نتاج للمجتمع الصناعي الحديث، وبخاصة منظومة قيمه ومعتقداته وبناءه السياسي. فبرغم أن لهذا النسق الاعتقادي “الحداثة” إنجازات عديدة إلا أن له جانبه المظلم أيضا متمثلا في الظلم الاجتماعي وإفساد البيئة، إلا أن معظم الناس منغمسون جدا في نموذج الحداثة هذا إلى درجة أنهم غير قادرين على إدراك أن “البناءات والعمليات التي تقوم عليها الحياة اليومية هي السبب في الدمار البيئي والظلم الاجتماعي”.

1- Homo Economicus  / أي أن الأولوية فيه تكون للرفاهية الاقتصادية التي ستقود إلى تحقيق الرفاهية في مجالات الحياة الأخرى.

2- النزعة التقدمية/ أي أن التقنية ستجد حلولا لكل المشاكل وأن الحالة الإنسانية سوف تتحسن بالتدريج من خلال الوفرة.

3- النزعة التصنيعية/ أي أن الإنتاج على نطاق واسع سيؤدي إلى تحقق الوفرة والتي بدورها ستؤدي إلى خلق نزعة استهلاكية.

4- النزعة الاستهلاكية/ إي أن استهلاك السلع المادية هو مصدر السعادة البشرية.

5- النزعة الفردية/ التي تشير إلى التنافس على المنفعة الفردية وإعطاء المصالح الفردية أولوية على المصالح العامة .

ويعكس هذا التحيز المتأصل المعتقدات التي دفعت نحو الاستعمار، والتنمية الصناعية والاقتصادية، فضلا عن طريقة الاستجابة للمشاكل الاجتماعية والبيئية الناتجة عن ممارساتها. وضمن هذا النموذج المتمركز حول الإنسان (الأوربي غالبا) نظر إلى الأرض على أنها مجرد مصدر وافر وغير ناضب للسلع، وركزت عملية التقدم بشكل أعمى على تحويل الموارد الطبيعية (بوساطة التقنية) إلى سلع استهلاكية تتحول بشكل سريع جدا إلى نفايات. وبالفعل فإنه ينظر للاقتصاد المزدهر على أنه “اقتصاد متوسع” ينتج سلع مادية كثيرة لتستهلك ومن ثم يتخلص منها. وأعتبر الإبداع الإنساني من خلال التقنية قادرا على حل كل المشاكل مما يمكن التقدم من الاستمرار بدون توقف.

وبالرغم من حدة وكثافة الانتقادات لذلك النموذج وتنامي الاهتمام الشعبي بالقضايا البيئية إلا أن الناس بشكل عام وكذلك الشركات والحكومات مازالوا يفتقرون لأي دافع لأخذ تلك القضايا على محمل الجد ومن ثم لم ينخرطوا في عمل فعال باتجاه ممارسات مستدامة. وفي ظل غياب رؤية بديلة فإن الاعتقاد في التميز والتقدم والإبداع التقني الإنساني يسهم في خلق مجتمع راض عن/ أو يقبل بالاستغلال البيئي والاجتماعي.

ولذا فمن الضروري الاعتراف بأن القضايا البيئية هي قضايا اجتماعية وثقافية وأنه في ظل غياب التحليل النقدي للمعتقدات الأساسية والأطر السياسية الاجتماعية للمجتمعات الصناعية لن يكون هناك مبادرات ناجحة تجاه العدالة الاجتماعية والبيئية، ولن يصبح المجتمع الحديث في وضع يسمح له بالتكيف مع رؤية عالمية بديلة وبناء سياسي وثقافي واجتماعي قادر على دعم بروز مجتمع مستدام بيئيا وتنمويا.

ومن الواضح أنه لا يمكن إيجاد مجتمع عادل بيئيا واجتماعيا عندما تكون الحياة الاجتماعية فيه واقعة تحت هيمنة وتأثير قوى السوق، والربح، والنمو الاقتصادي، ومعايير الرفاهية المتنامية، كما أن النزعة الاستهلاكية غير المقيدة تؤدي إلى استغلال غير مقيد. وبناء  عليه فإن معالجة تلك القضايا يتطلب تفكيرا جديدا يعترف بالعلاقة المتداخلة بين الإنسان والبيئة في ظل التنمية المستدامة التي توازن بين التغير الإبداعي والتقدمي، والمحافظة على البيئة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز سعادة الأفراد، والمجتمع، وتستطيع المعايير والمؤسسات العامة فيها الحفاظ على نوع من التضامن الاجتماعي الذي يمكن من خلاله المساهمة في سعادة وخير الجميع.

محور اهتمام التنمية الاقتصادية المستدامة فيتمثل في تطوير البنى الاقتصادية فضلا عن الإدارة الكفؤة للموارد الطبيعية والاجتماعية.

والقضية هنا أن تلك المجالات الثلاثة للتنمية المستدامة تبدو نظريا منسجمة لكنها ليست كذلك في الواقع الممارس. كذلك فإن المبادئ الأساسية هي الأخرى مختلفة فبينما تمثل الكفاءة المبدأ الرئيس في التنمية الاقتصادية المستدامة تعتبر العدالة محور التنمية الاجتماعية المستدامة، أما التنمية البيئية المستدامة فتؤكد على المرونة أو القدرة الاحتمالية للأرض على تجديد مواردها.

وتتعلق رابع خاصية مشتركة بالتفسيرات المتعددة للتنمية المستدامة. فمع أن كل تعريف يؤكد على تقدير للاحتياجات الإنسانية الحالية والمستقبلية وكيفية الإيفاء بها، إلا انه في الحقيقة لا يمكن لأي تقدير لتلك الاحتياجات أن يكون موضوعيا، فضلا عن أن أية محاولة ستكون محاطة بعدم التيقن.

ومن أهم تلك التعريفات وأوسعها انتشارا ذلك الوارد في تقرير بروندتلاند (نشر من قبل اللجنة عبر الحكومية التي أنشأتها الأمم المتحدة في أواسط الثمانينات من القرن العشرين بزعامة جروهارلن بروندتلاند لتقديم تقرير عن القضايا البيئية)، والذي عرف التنمية المستدامة على أنها “التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحاضر دون التضحية أو الإضرار بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها”

ومع أن هناك شبه إجماع نظري بأن المساواة (سواء بين أفراد الجيل الحالي من جهة أو بين الأجيال المختلفة من جهة أخرى) تعتبر عنصرا أساسيا للمفهوم إلا أن مضمون تلك المساواة لا يزال غامضا.

وبينما يصف تعريف بروندتلاند بغموض شديد الإجماع العام حول تعريف الاستدامة، إلا أن هناك جدلا واسعا حول وسائل ضمان استقرار الأجيال القادمة. فالتفسيرات المتعلقة بكيفية تنفيذ “التنمية المستدامة” تتباين ما بين تلك التي تتبنى التركيز الضيق على الاقتصاد أو الإنتاج إلى تلك التي تدعو إلى استيعاب واسع للثقافة والبيئة فضلا عن أن هذا التعريف قد أعتبر منحازا إلى نموذج إرشادي تنموي محدد (يتمركز حول الإنسان) ولذلك رفض وانتقد من قبل كثير من الكتّاب.

الاستدامة الضعيفة أو الضحلة (المتمركزة حول الإنسان):

تزعم حركة الاستدامة الضعيفة التي عرفت إيضا “بالبيئية الضحلة” “shallow environmentalism” بأن هناك حاجة لتوسيع نطاق المخزون من الموارد وأن هذا يمكن تحقيقه من خلال تطوير موارد متجددة، وإيجاد بدائل للموارد غير المتجددة، والاستخدام الأمثل للموارد الحالية و/أو البحث عن حلول تكنولوجية لمشاكل من قبيل نفاد الموارد والتلوث. وفي القلب من هذا الخطاب يكمن تفاؤلا ضمنيا يتمثل في الثقة بأن البشر سيجدون حلا لكل مشكلة بيئية تبرز على السطح، كما سيكونون قادرين على تعزيز مخزون الموارد وذلك لأن التقدم التقني كما يفترض سيمكن البشر من التحكم في الأرض لتلبية مطالبهم المتنامية. ومن ثم فإن أي مشكلة تظهر ستحل من خلال التطور التقني. ويجادل أنصار هذا الموقف بأن أسباب الأزمة البيئية التي يعيشها كوكب الأرض لا تكمن في قيم نموذج الحداثة المهيمن المتمركز حول البشر ولا في معاييره أو مؤسساته وممارساته بل أن تلوث الماء والهواء ونفاد الموارد الطبيعية وتناقص التنوع البيئي والفقر وحالات عدم المساواة هي نتيجة للجهل والجشع والممارسات الحمقاء في التعامل مع البيئة. ومن ثم:

يمكن كبح مثل هذه الممارسات الحمقاء الملامة خلقيا عبر سن تشريعات وتغيير السياسة العامة، وزيادة التعليم، وتغيير القوانين الضريبية، وإعادة الأراضي العامة إلى مالكيها ……، والتأكيد على الإلزامات الخلقية نحو الأجيال المستقبلية، وتشجيع الإدارة الحكيمة للطبيعة وتشجيع آخر لاستخدام رشيد للموارد الطبيعية (زيمرمان 2006 ص. 20).

كما أنهم متفائلون بشكل عام حيال قدرة الإنسان على حل أي مشكلة يمكن أن تظهر فيما يتعلق بنفاد الموارد. وينبع هذا التفاؤل من الاعتقاد بأن الخبرة العلمية والتقنية في المجتمع الصناعي الحديث ستردم الفجوة بين الطلب والموارد من خلال التحكم في مخزون الموارد – للإيفاء باحتياجات المجتمع. ومن ثم يزعم أنصار الاستدامة المتمركزة حول الإنسان أنه ليس هناك حاجة لتحويل أو تعديل الخطاب السائد حول الطبيعة والبيئة والتقدم الاقتصادي والتنمية والذي ينظر للطبيعة في الغالب كمورد للبشر حق الهيمنة عليه واستغلاله فضلا عن الاعتقاد بأن التقدم الاقتصادي يعتبر معيارا شرعيا للتقدم.

وبرغم التفاؤل الذي يسود بين أنصار هذا التوجه من أن أحدى أهم النتائج المترتبة على تنامي تطور علاقة الإنسان التبادلية مع الطبيعة في ظل ظروف مجتمع المعلومات أو المجتمع ما بعد الصناعي تتمثل في العملية التي تعرف بـ dematerialization (تقليص الاعتماد على الموارد المادية) والتي تعني الحصول على نفس النتائج أو نتائج أفضل بقدر أقل من استهلاك الموارد المادية من خلال تحويل المنتجات إلى خدمات لدعم وتبرير العمليات الإنتاجية الصديقة (غير الضارة) للبيئة، ونشر التغيرات البنائية المصاحبة لها، إلا أن النسق الاقتصادي الآخذ في التبلور نتيجة لتلك الإبداعات يعاني كما يقول ليفين  Levin  من عدة تشوهات. فعلى سبيل المثال يلاحظ أن فروع الإنتاج المعلوماتي تتميز بنمو متسارع مما قد يتسبب في حدوث عواقب وخيمة، وعندها يمكن الحديث عن ما يعرف بتأثير فقاعة الصابون بالنسبة لهذا القطاع من الاقتصاد التي تعني أن حدوث أدنى قدر من التغيرات في الحالة السياسية والاقتصادية قد يحدث موجات عديدة من التوتر في سوق الأسهم على مستوى العالم كله (Levin, 2006:66).

أما فيما يتعلق بمصطلح dematerialization ذاته فلا يبدو أنه ملائم كعلامة للعمليات القائمة حيث أن أهداف الاستهلاك الإنساني لا يمكن إحلالها كليا بنظائرها الافتراضية. ورغم أن الميزة المحددة للتطور التقني في مجتمع المعلومات تتمثل في الإحلال التدريجي للمتطلبات المادية للاستهلاك بأخرى افتراضية، إلا أن هذه النزعة لا يمكن أن تشمل تماما كل مجالات الاستهلاك، كما أن الاستهلاك غير المادي يظل خطيرا على البيئة التي يعيش فيها الإنسان. فقد أعتقد كثيرون أن تطور أنظمة الاتصال مثلا سيقضي بالتدريج على الروابط القائمة بين الناس، والحاجة إلى الاتصال الشخصي، أو حتى أن الحركة المكانية ستتقلص، حيث سيتم تنفيذ معظم العمليات التي تعتبر سلوكا معتادا للإنسان المتحضر- مثل التسوق، والخدمات البنكية، والعمل- من بعد من خلال أجهزة الحاسوب، ومن ثم يمكن القضاء على واحدة من أكبر الأزمات البيئية المتمثلة في تلوث الهواء الناتج عن عوادم السيارات فضلا عن الازدحام السكاني (Levin 2006: 67).

ومع أنه في ظل هذه الظروف يستطيع الناس أن يقابلوا بعضهم بعضا “افتراضيا”، إلا أنه لا يمكن القيام بكل أشكال النشاط الإنساني بهذه الطريقة ويبقى اللقاء الشخصي هاما. وهذا يؤدي إلى زيادة كبيرة في معدل المسافة التي يقطعها كل شخص أو معدل الرحلات الشخصية. و لا يزال مثل هذا الأمر قائما حتى في الدول المتقدمة. فضلا عن ذلك يجب ألا ننسى عامل أخر لا يقل أهمية فيما يتعلق بمزيد من التطور في المواصلات “الحقيقية”: فمع انتشار الناس وتوزعهم على “قرى الحاسوب” ستزداد المسافة بين المنتج للسلع والمستهلك لها كما هو ملاحظ في تجربة البلدان الأكثر تقدما في هذا المجال. وحيث أنه لا يمكن لثلاجة منزلية مثلا طلبت عن طريق الانترنت أن ترسل عبر الفاكس أو الحاسوب فإن حركات الناس عبر المكان تتزايد بنفس معدل تزايد الاتصالات الاليكترونية بينهم.

وهناك أثر أخر لا يقل أهمية لتطور تقنيات الاتصال يتمثل في تنامي استهلاك الطاقة في البلدان المتقدمة. فكل منزل في البلدان المتقدمة تقريبا لديه الكثير من الأجهزة المصممة لكي تستهلك قدرا مطردا من الطاقة. فالأجهزة التي تعمل ليلا ونهارا بدون توقف تعتبر أمرا معتادا كما هو الحال مع أجهزة الحاسوب، ولا يبدو أن مثل هذه النزعة لاستهلاك المزيد من الطاقة في طريقها للتقلص في المستقبل القريب بل أنها تشهد تناميا مطردا، بل أن الأمر سيتطلب إنتاج قدرا أكبر من الطاقة عندما يتم تطبيق الخطط من أجل ما يعرف “بالبيوت الذكية” التي يتم التحكم في كل وظائف الحياة اللازمة فيها عن طريق الأتممة الذكية. وعندما نأخذ في الاعتبار أن القدر الأكبر من كهرباء العالم يتم توليده من خلال محطات الكهرباء الحرارية (التي تستخدم أساسا الوقود الاحفوري كالنفط الخام أو الغاز الطبيعي)نجد أن فرض مثل ذلك العبء الإضافي يمكن أن يقضي على كل الجهود الهادفة إلى إنجاز تنمية مستدامة.

وهناك اتجاهان يتمتعان بشعبية متزايدة ضمن أدبيات هذا الاتجاه. أولهما: ما يشار إليه أحيانا “التحديث الإيكولوجي” “Ecological Modernization (see for example:    Roberts 2004; Mol 1999 ) ، الذي يزعم أن الممارسات الاقتصادية الحالية متجذرة بشكل عميق في نموذج الحداثة ومرتبطة بالمؤسسات العلمية التقنية الحديثة. وبناءا عليه فإن ” المؤسسات المهيمنة تستطيع بالفعل أن تتعلم وأن تعلمها يمكن أن ينتج تغيرا مفيدا” (Hajer, 1996: 251). ومن ثم يرفض هذا الاتجاه النظرة القائلة بأن قوى السوق قد أدت في الماضي إلى التدهور البيئي أو أنها يمكن أن تتسبب في أزمة بيئية في المستقبل ويزعم بأن الأزمة البيئية ليست إلا نتيجة للجهل والجشع وقلة البصيرة وهو ما يمكن كبحه من خلال تطوير التعليم وسن التشريعات وترشيد استخدام الموارد(زيمرمان 2006أ: 20). وبرغم أن هذا الاتجاه يقدم فهما معقدا للمجتمع ما بعد الصناعي إلا أن فكرته الأساسية تتمحور حول الإبداع التقني. فبعكس الاتجاهات البيئية الأخرى، التي ترى أن التطور التقني يمثل معضلة مما يستدعي كبح الرأسمالية أو عملية التصنيع بهدف حل الأزمة الإيكولوجية، يزعم أنصار التحديث الأيكولوجي أن استمرار التطور التقني والتصنيع يقدم أفضل خيار ممكن للتخلص من الأزمة الإيكولوجية في الدول المتقدمة.

كما يجزم أنصار هذا الاتجاه بأن التوقعات بحدوث ضغوط كبيرة على الناس أو الموارد البيئية أمر غير دقيق، بسبب إغفال قدرة البشر على إيجاد حلول لمشكلات الندرة من خلال إيجاد البدائل وتحسين كفاءة النمو الاقتصادي حتى يستخدم موارد طبيعية أقل وتقليص الاستهلاك (Anderson & Leal 1991:2)، فضلا عن رفض إحداث تغيير جذري في مسار التطور الاقتصادي ومطالب البشر تجاه الأرض. وفي هذا السياق يزعم  Dryzek  أنه  “يمكن النظر للتدهور البيئي كمشكلة بنائية يمكن حلها فقط من خلال الإلمام بكيفية تنظيم الاقتصاد ولكن ليس بطريقة تتطلب نوعا مختلفا تماما من النظام السياسي الاقتصادي” (Dryzek 1997: 141). ولذلك يحاول اتجاه التحديث الإيكولوجي التوفيق بين حتميات السوق والالتزامات الإيكولوجية وهذا يعني ضمنا “شراكة تتعاون فيها الحكومات والشركات وأنصار البيئة المعتدلون والعلماء لإعادة صياغة الاقتصاد السياسي الرأسمالي وفقا لأسس بيئية يمكن الدفاع عنها (Ibid:145).

و يعتبر التحديث الأيكولوجي، كما هو الحال بالنسبة للتنمية المستدامة، مفهوما مطاطيا يفهم ويطبق بطرق مختلفة لكنه يذهب أبعد من التنمية المستدامة في زعمه بأن التوفيق بين البيئة والتنمية ليس فقط ممكنا ولكنه مفيد لقطاع الأعمال أيضا. ويحاول اتجاه التحديث الأيكولوجي أن يأخذ التنمية المستدامة خطوة إلى الأمام لكن في اتجاه مختلف بشكل كبير. فهو يؤكد على أن المجتمع الصناعي لن يكون بمقدوره البقاء فقط بل أنه يستطيع التكيف جيدا وبشكل مثمر مع الضغوط البيئية حيث يزعم أن التحكم المسئول في الضغوط البيئية يمكن أن يكون جيدا لقطاع الأعمال، فالتلوث يعكس عدم الكفاءة وبالتالي يضيف مزيد من التكاليف لقطاع الأعمال. وفي هذا السياق يؤكد  Hajer 1995 “أن التحديث الإيكولوجي يستخدم لغة قطاع الأعمال ويصور التلوث البيئي كنتيجة لانعدام الكفاءة بينما يعمل ضمن حدود التكلفة والفعالية والكفاءة البيروقراطية”(Hajer 1995:.31). ولا ينكر أنصار هذا التوجه حدة وخطورة المشاكل البيئية لكنهم بدلا من تبديد جهدهم في إنكارها يفضلون الاستثمار في حلها لأنهم يدركون أن معالجة مثل تلك المشاكل يمكن أن ينتج عنه نتائج إيجابية اقتصاديا وسياسيا وبيئيا. أي أن الحماية من التلوث والاستثمار في تقنيات جديدة مجدي اقتصاديا، كما أن النظر للطبيعة كمورد ثمين بدلا من مكب نفايات يعني أن تلويث البيئة مكلف بالمعايير الاقتصادية والبيئية. باختصار يمكن القول أن اتجاه التحديث الإيكولوجي يمثل أساسا اقتراب حداثي وتكنوقراطي للبيئة يرى أنه يمكن إيجاد حلول تقنية ومؤسساتية للمشاكل القائمة، وأن الافتراض الأساسي لهذا الاتجاه يتمثل في أن القيم الاقتصادية والإيكولوجية هي /أو يمكن أن تكون متوافقة، وعندما يتحقق مثل هذا التوافق يتم تحويل المبادئ الإجرائية (مثل التنمية المستدامة) إلى معرفة اجتماعية ومؤسساتية.

ومع ذلك فهناك من ينتقد الافتراضات النظرية ونتائج صنع السياسة لاتجاه التحديث الإيكولوجي (وخاصة الجانب الأضعف منه) باعتباره مجرد نموذج “للرأسمالية الخضراء”، حيث يزعم كل من Connelly and Smith  أن التحديث الأيكولوجي، الذي تم تبنيه في كثير من الدول الصناعية المتقدمة وضمن أجندة التنمية المستدامة التي تبنتها الوكالات الدولية، يبرر الوضع القائم ونمط التصنيع الغربي من خلال إعاقة المواقف الأكثر ثورية للاستدامة من الظهور وعدم الاستغلال الكامل للامكانات الثورية لمفهوم التنمية المستدامة وترسيخ النموذج المعرفي المتمركز حول الإنسان والتقنية (Connelly and Smith, 1999:57-59) . كما يتهم هذا الاتجاه بتهميش القضايا البيئية وإخضاعها لاعتبارات الاقتصاد أو إدارة الموارد. ففي صياغة الأجندة البيئية أستخدم التحديث الإيكولوجي لغة قطاع الأعمال التي تنظر للبيئة بمعايير نقدية ولم يهتم بها إلا عندما تحقق عوائد اقتصادية مثل توفير التكاليف أو تحقيق ميزة تفضيلية. وهذا التركيز حال دون أن يتضمن اتجاه التحديث الإيكولوجي الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية الأوسع التي تعتبر ضرورية في التحول تجاه مزيد من الاستدامة (Christoff 1996: 485). كذلك ينتقد هذا الاتجاه لاستناده على معايير وقيم للتقدم تتبناها النظرية السائدة للتنمية كقيم الحداثة والعقلانية مما جعل “الخطاب الرسمي” الحالي تجاه صنع السياسة البيئية المتبني للتحديث الإيكولوجي يستبعد بشكل كبير المواقف المختلفة للاستدامة التي تشمل اهتماما أكبر بالحساسية الاجتماعية والثقافية، وتعزيز المشاركة السياسية، وتبني استراتيجيات فرعية -إقليمية ومحلية- للاستدامة ويصفها باللاعقلانية (Gibbs 2000: 9-17). وينتقد الاتجاه أيضا لكونه يمثل مسارا أحاديا للحداثة الإيكولوجية مما يجعله مفضلا في أوساط التوجه الرئيس للنظرية التنموية الذي يعتبره بمثابة المرحلة الضرورية القادمة من العملية التطورية للتحول الصناعي، وهي المرحلة التي تتسم بهيمنة العلم والتقنية الغربيين فضلا عن سيادة ثقافة الاستهلاك(Christoff 1996:487-488) .

أما الاتجاه الثاني الذي يشار إليه أحيانا “بالعدالة البيئية” Environmental Justice وأحيانا “الحركة الخضراء” فيمثل مظلة تستخدم لوصف المنظمات التي تحاول تعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة نظرا لحالات عدم العدالة التوزيعية الناتجة عن السياسة البيئية. ويزعم هذا التوجه أن هناك ارتباطا وثيقا بين الجودة البيئية والمساواة الاجتماعية، فحيثما يحدث تدهور للبيئة يكون ذلك مرتبطا في معظم الأحوال بقضايا العدالة الاجتماعية والمساواة، والحقوق ونوعية حياة الناس بشكل عام. ويرى أنصار هذا الاتجاه أن من الظلم تحميل تبعات المخاطر البيئية على كاهل أطراف لم تكن مسئولة عن التسبب فيها وخاصة الفئات الهامشية في المجتمع كالفقراء (Wenz 1988; Low & Gleeson 1998). وفي هذا السياق يزعم (Agyeman 2002: 77-90) أن هناك ثلاثة أبعاد مرتبطة بهذه القضية، أولا: يلاحظ أن البلدان التي لديها توزيع أكثر عدالة للدخل، وقدر أكبر من الحريات المدنية والحقوق السياسية، ومستوى أعلى من التعليم تميل لأن تتمتع ببيئة ذات جودة أعلى مما عليه الحال في البلدان التي تسجل معدلات أقل في مجالات توزيع الدخل والحريات والتعليم. ولا يقتصر هذا الأمر على المستوى العالمي بل يتكرر أيضا على المستويات الإقليمية والمحلية. ثانيا: يتحمل الفقراء العبء الأكبر من تبعات المشاكل البيئية من تلوث الهواء والماء بينما يستطيع الأغنياء ضمان الحصول على بيئة وصحة أفضل لهم ولأطفالهم. ومما يفاقم هذا التوزيع غير العادل للمشاكل البيئية حقيقة أن الفقراء دوليا وقوميا ليسوا المتسببين الرئيسين في التلوث حيث أن معظم التلوث والتدهور البيئي ناتج عن تصرفات الدول الغنية ذات الاستهلاك المرتفع وخاصة الجماعات الثرية فيها. وهذا الوضع هو الذي دفع إلى بروز حركات العدالة البيئية في الولايات المتحدة. أما البعد الثالث فيرتبط بالتنمية المستدامة التي تبنتها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية منذ قمة ريو 1992م والتي تركز بدرجة أكبر على ضمان الحصول على نوعية حياة أفضل بأسلوب عادل ومتساو مع العيش ضمن حدود النظم الإيكولوجية الداعمة.  إلا أن هذه الاستدامة وبرغم أهميتها ليست كافية، فالمجتمع المستدام حقا هو ذلك الذي تكون فيه القضايا الأوسع مثل الاحتياجات الاجتماعية والرفاه الاجتماعي والفرص الاقتصادية مرتبطة بشكل تكاملي مع القيود البيئية المفروضة (Agyeman. 2002:87).

ولذلك يؤكد اتجاه العدالة البيئية على قدرة النمو الاقتصادي على الاستمرار ولكن مع التأكيد على إعادة توزيع المنافع والتكاليف بطريقة أكثر عدالة مما يجعله وسيلة للتوفيق بين أجندة التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. ويرتبط هذا بالتأكيد على ضرورة توفر قدر أكبر من العدالة كهدف اجتماعي مرغوب وعادل جوهريا بإدراك أنه بدون نضال المجتمع من أجل قدر أكبر من المساواة الاجتماعية والاقتصادية ضمن المجتمع وبين الدول فإنه من غير المحتمل ضمان تحقيق هدف الوصول إلى مجتمع عالمي أكثر استدامة. وينتقد أنصاره النماذج الأقوى من الاستدامة لتجاهلها الآثار السلبية الناتجة عن حركة استدامة رأس المال البيئي على المساواة الاجتماعية، فضلا عن فشل الحركات البيئية والباحثين في مجالها عن إدراك المظالم في الأنماط الحالية للحصول على السلع البيئية من جهة والتعرض للمخاطر البيئية من جهة أخرى. ولذا ينظر للعدالة البيئية كوسيلة لتجاوز تلك المشاكل من خلال إعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والطبيعة لكي لا تكون مبنية فقط على معايير اقتصادية، ولتسليط الضوء على الأبعاد الاجتماعية الهامة للأطر والمشكلات البيئية.  ويعترف أنصار هذا الموقف بالروابط المباشرة وغير المباشرة بين حماية الموارد الطبيعية وصحة أفراد المجتمع، حيث يدركون أن للبيئة النظيفة أثرا ايجابيا على الصحة العامة للسكان، كما يدركون أيضا أن توزيع خدمات الموارد الطبيعية بين الشعوب لم يكن عادلا. ولذا يزعمون أن الحكومة مسئولة عن حماية الموارد الطبيعية بطريقة تستوعب وجهات نظر واحتياجات الأفراد والحيوانات الأكثر عرضة للضرر حتى يستطيع كل فرد الاستمتاع بمنافع الموارد الصحية والخدمات البيئية.  كذلك يعمل أنصار هذا الموقف على إعادة تشكيل الثقافة السياسية العالمية ما بعد الحرب الباردة في علاقتها بالعولمة الاقتصادية. حيث يركز خطابهم على دور الشركات عبر القومية وسياسات الدولة “النيوليبرالية” في علاقتها بقضايا مثل الاحترار العالمي، وقطع الغابات، وفقدان التنوع البيئي، وانقراض الكائنات الحية، وتلوث الهواء والماء(see: Athanasiou 1996; Korten 1995). ويؤكد هذا الخطاب على وجود علاقة وثيقة بين العولمة النيوليبرالية وحالة عدم المساواة وبين الخطر البيئي والعدالة الاجتماعية وذلك لأن العولمة وسياسات تحرير التجارة المنبثقة عنها تعمل على تسريع وتفاقم الخطر البيئي الذي يحول معظمه وبطريقة ظالمة على لفئات المهمشة الأقل استعدادا لتحمله. ولذلك أعلن أنصار هذا الاتجاه عداءهم للعولمة النيوليبرالية الموجهة من قبل الأقوياء لصالح القلة واتهموها بتهديد البيئة وتحطيم المجتمعات واستغلال موارد العالم الثالث، والتسبب في الحروب وإضعاف الديموقراطية(see for example: Starr 2000).

الاستدامة القوية(المتمركزة حول البيئة):

مع أن الاقترابات الاقتصادية للاستدامة الأضعف لم تطرح مسألة انسجام التنمية المستدامة مع النمو الاقتصادي حيث ركزت بشكل أساسي على النمو الاقتصادي، إلا أن محدودية الفضاء والموارد الطبيعية فضلا عن القدرة المحدودة للغلاف الجوي لاستيعاب وتخزين الغازات الدفئية يجعل التنمية المستدامة التي تتطلب نموا لا محدودا تبدو مستحيلة. ولذا ينظر أنصار الاستدامة القوية(المتمركزة حول البيئة) للأرض كمورد ناضب غير متجدد ومن ثم يزعمون أنه ليس هناك مستقبل بيئي ممكن إلا إذا تم تعديل جذري على جانب الطلب من المعادلة من خلال إعادة التفكير في موقفنا تجاه الطبيعة فضلا عن فكرتنا عن التقدم الاقتصادي والتنمية (see for example the works of: Goldsmith et al. 1995; Henderson 1999).

ولذلك تؤكد وجهة النظر هذه المعروفة أيضا “بالإيكولوجية العميقة”deep ecology” ” أو المذهب الإيكولوجي (التبيئو) ecologism (الذي يهتم بدراسة العلاقة بين الكائن الحي والبيئة التي يعيش فيها) “المتمركزة حول البيئة” “ecocentric” بأنه لابد من حدوث ثورة في النموذج الإرشادي المهيمن إذا ما أريد إنقاذ كوكب الأرض من الفساد البيئي. وتبعا لذلك فإن هذه النظرة ترى أنه لابد أن نعمل على تكييف أنفسنا للحفاظ على الطبيعة المهددة بالفناء بدلا من تكييف الأرض لتناسب احتياجاتنا. وقد تسبب إصرار أنصار هذا الاتجاه على إحداث تغير بنائي وثقافي في إثارة مخاوف كل من قطاع الأعمال والساسة وأولئك الناس الذين كانوا يرغبون في حلول جزئية للمشاكل البيئية. وقد مثل هذا التوجه حركة الرفض ضد سياسات وممارسات الشركات والحكومات المتعلقة بالبيئة في الدول المتقدمة.

ونتيجة لذلك يركز أنصار الجانب الأقوى للاستدامة على تغيير المطالب تجاه الأرض ويتبنون فهما مختلفا للتنمية المستدامة، حيث يعمدون إلى التأكيد على الاستدامة الإحيائية (البيولوجية) كشرط أولي لأي تنمية، بدلا من التركيز على التأثير الإنساني على استراتيجيات التنمية، ومن ثم ينظر للتنمية المستدامة كوسيلة لتحسين نوعية الحياة الإنسانية مع العيش ضمن حدود القدرة الاحتمالية للأنساق الحيوية للأرض.[1]

ويندرج تحت حركة الاستدامة القوية هذه عدة فروع للفلسفة البيئية ومنها الفلسفة الإيكولوجية العميقة  deep ecologyالمتمركزة حول المجال الحيوي(biocentrism) ، والفلسفة الإيكولوجية النسوية (ecofeminism) التي تعبر عن تنمية مستدامة (متمركزة حول المرأة).

وتعود جذور الإيكولوجية العميقة إلى الفيلسوف النرويجي آرني نايسArne Naess  الذي ركز على نقد حركة الاستدامة المتمركزة بشريا التي اهتمت بنظره أساسا بالتلوث واستنزاف الموارد. وتؤكد هذه الفلسفة على اعتبار البشر جزءا مكملا للنسق البيئي الذي يعتبر أعلى وأكبر من أي من أجزائه ومن ضمنهم البشر ومن ثم تضفي قيمة أكبر على الكائنات الحية والأنساق والعمليات البيئية في الطبيعة.

ويعتبر مبدأ نايس Naess’s doctrine of biospheric egalitarianism للمساواة في المجال الحيوي، الذي يزعم أن لكل الكائنات الحية الحق نفسه في الحياة والازدهار، المبدأ الأساس للإيكولوجيا العميقة. ويتكون هذا المبدأ الذي يعتبر “قلب هذا التوجه” من ثمان نقاط هي:

1-            إن سلامة واستمرار الحياة البشرية وغير البشرية على الأرض تمثل قيمة بحد ذاتها مستقلة عن نفع العالم غير البشري للاستهلاك البشري.

2-                             أن ثراء وتنوع أشكال الحياة يسهمان في تحقيق هذه القيم، ولهما قيمة في حد ذاتهما أيضا.

3-                             لا يحق للبشر إنقاص هذا التنوع إلا من خلال تلبية الحاجات الحيوية الأساسية.

4-            يتوافق استمرار الحياة البشرية وثقافاتها، وكذلك الحياة غير البشرية، مع عدد أصغر من السكان على الأرض.

5-                             أن الاستغلال البشري الحالي للطبيعة مفرط جدا ويزداد الوضع سوءا.

6-                             يجب أن تتغير تلك السياسات لأنها تؤثر في البنى الأساسية الاقتصادية والتقنية والإيديولوجية.

7-                             لابد أن يكون التغيير الأيديولوجي الرئيس من النوع الذي يثمن نوعية الحياة أكثر

أخيرا ، يا ليتنا نتمكن من إحداث إستراتيجية طويلة الأمد لنعمل على إحداث التنمية المستدامة و تطويرها و تفعيلها ، لكي نحمي أجيالنا المقبلة و لنطور مجتمعاتنا و نعزز الإزدهار الإقتصادي و بالتالي العمل على محو الفقر و الحرمان .


 

2 ردود
  1. Reihana
    Reihana says:

    Dear Shadi

    I am an Iranian student currently searching about the state of Sustainability in MENA region, I read your article and enjoyed getting familiar with sustainability terminology in Arabic as well as getting know your website. Thank a lot for publishing it and with best wishes.

التعليقات مغلقة