العمل النقابي في لبنان بين فترة جلب حقوق العمال و الإزدهار و فترة الرضوخ و التبعية

أقرت معظم تشريعات العالم بحق إنشاء النقابات العمالية لا بل بعضها اعتبر إلزامية قيام النقابات من الأمور الجوهرية في تحول الحركة العمالية . وأخذت هذه الهيئات موقعها في تركيب بنية الدولة من الوجهة الاقتصادية وحتى السياسية .
ولم يكن موقف أصحاب العمل أقل قناعة بحتمية إنشاء النقابات في إطار من التعاون والتنسيق والثقة المتبادلة ، لا بل عمد بعض هؤلاء على تشجيع إنتاج النقابة في مواقع عملهم إيماناً منهم بالارتداد الإيجابي لذلك على سقف الإنتاج والعلاقة بين طرفيه .

و لكن للأسف تعاني الحركة النقابية العمالية في لبنان اليوم من ضعف وانقسامات في تكوينها ونشاطها. لقد أثّرت الحرب الأهلية سلباً على جميع قطاعاتها، وانعكس الانهيار البنيوي اللبناني انهياراً مماثلاً في بنيتها. فالانقسامات الطائفية وتفريخ الاتحادات المذهبية، وإلحاق النقابات بالزعامات الطائفية، وانفكاك العمال عن الانتساب إلى هذه النقابات حتى بدت كأنها مجموعة ضباط هرمون، ولكنْ، من دون جنود. الواقع الراهن هو أسوأ ما تشهده الحركة النقابية، وهو ينعكس على دورها الهامشي في مواجهة المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يقف أمامها لبنان اليوم.


إحدى التظاهرات العمالية

فهذا الوصف لا ينطبق على مسار الحركة النقابية اللبنانية التاريخي، فهذا التاريخ، القديم والحديث، مليء بالصفحات المشرقة والنضالات منذ التأسيس حتى سنوات خلت. ومن المفيد رصد مسار هذه الحركات عبر محطات أربع أساسية و هي كالآتي:

أولاً – محطة التأسيس في العشرينات وصولاً إلى الاستقلال


تأسست الحركة النقابية اللبنانية مطلع عشرينات القرن الماضي، وكانت ولادتها الأولى مرتبطة بتأسيس حزب العمال العام في لبنان الكبير عام 1921، مستنداً إلى عدد من النقابات: تعاونية الريجي في بكفيا، نقابة عمال المطابع، نقابة عمال سكة الحديد، نقابة الطهاة، جمعيتي النجارين والحلاقين، نقابة عمال زحلة، وغيرها. اتسمت هذه المرحلة بازدواج العمل النقابي المطلبي الساعي إلى حق العمال في تأسيس نقاباتهم المهنية وتنظيم أنفسهم، وفي النضال أيضاً من أجل تحقيق الاستقلال الوطني عن الانتداب الفرنسي. واجهت النقابات خلال هذه الفترة ضغوطاً من سلطات الانتداب ومحاولات لإجهاض تكوّنها ونضالاتها.


ثانياً – من الاستقلال حتى عشية الحرب الأهلية


يمكن اعتبار هذه المرحلة الممتدة على ثلاثة عقود بأنها العصر الذهبي للحركة النقابية العمالية في لبنان. فهي اتسمت بالاتساع والانتشار في كل المناطق، وفي قوة التنظيم، وفي عدد المنتسبين إليها، وبالتالي إلى الدور الوطني العام في الحياة السياسية والمطلبية.

أولى المحطات الأساسية والمفصلية جاءت مباشرة في أعقاب الاستقلال، حيث قادت الحركة النقابية نضالاً شرساً من أجل سن قانون العمل اللبناني. وعلى امتداد سنوات، تعرضت الحركة إلى القمع والاضطهاد من السلطتين الفرنسية واللبنانية، توّج ذلك أخيراً بانتصار الحركة النقابية عام 1946 عبر الحصول على قانون العمل الذي ينظم علاقة العمال بأرباب العمل ويضمن حقوقهم.

فيُنَظِّم قانون العمل اللبناني الصادر عام ١٩٤٦ طريقة وشروط تأسيس نقابة في لبنان. تعطي المادة ٨٣ من هذا القانون الحق لأرباب العمل وللأجراء في كل فئة من فئات المهن أن يؤلف كل منهم نقابة خاصة يكون لها الشخصية المعنوية وحق التقاضي.

فالمادة ٨٤ من هذا القانون تحصر غاية النقابة في الأمور التي من شأنها حماية المهنة وتشجيعها ورفع مستواها والدفاع عن مصالحها والعمل على تقدمها من جميع الوجوه الاقتصادية والصناعية والتجارية. وتحظر على النقابات الاشتغال بالسياسة والاشتراك في اجتماعات وتظاهرات لها صبغة سياسية.

أما المادة ٨٥ فتَفرِضُ على النقابة المراد تأسيسها أن تجمع عمالا يمارسون مهنة واحدة أو مهنا متشابهة. المادة ٨٦ تعتبر أن إنشاء النقابة لا يتم إلا بعد الترخيص لها من قبل وزير العمل.

المادة ٨٧ فتَفرِضُ أن يقدم طلب الترخيص إلى وزارة العمل- مصلحة النقابات، فتستطلع الوزارة رأي وزارة الداخلية بشأن الطلب وتتخذ قرارها بالرفض أو بالقبول. كما أن النقابة لا تعتبر شرعية إلا بعد نشر القرار في الجريدة الرسمية.

المادة ٨٨ من هذا القانون، توجب أن يُقدم طلب الترخيص على ثلاث نسخ وأن يُرفَق بثلاث نسخ عن النظام الداخلي وبورقة السجل العدلي لكل من الأعضاء المؤسسين. فتُلصق الطوابع على النسخة الأولى التي تعاد للمستدعين مع قرار التصديق. والثانية تبقى لدى وزارة الداخلية والثالثة لدى وزارة العمل. من واجبات كل نقابة، بحسب المادة ٨٩، أن تضع نظاماً داخلياً مصدقاً عليه من الهيئة العامة بأكثرية ثلثي أعضائها ولا يكون نافذاً إلا بعد المصادقة عليه من وزارة العمل.

وعلى رغم الثغرات التي كانت تسم القانون، إلا أنه شكل أهم مفصل في تاريخها وأسس لاحقاً لتطوير وتنظيم الاتحادات العمالية.

محطة ثانية مهمة تجلت في انتزاع الترخيص للاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين عام 1966، والذي ضم النقابات العمالية. فقد لعب هذا الإتحاد دوراً أساسياً في دفع وتطوير الحركة النقابية وصولاً إلى تأسيس الإتحاد العمالي العام في لبنان في 25 نيسان 1970، والذي يعتبر بحق أهم إنجاز في تاريخ الحركة العمالية خلال السبعينات والثمانينات من القرن العشرين.
خلال هذه الفترة، خاضت الحركة النقابية نضالات واسعة شملت كل قطاعات الإنتاج. كانت معركة تحقيق قانون الضمان الاجتماعي في أيار 1965 أهمها من الناحية المطلبية، بعد عشرين سنة من النضال. كما خاضت الحركة إضرابات في قطاعات الكهرباء وعمال بلدية بيروت، والمياه، والفنادق، ودعمت حركة المستأجرين من أجل قانون عادل للإيجار، كما ساندت الحركة التعليمية وإضراب المعلمين وأساتذة الجامعة. وخاضت نضالات من أجل تخفيض أسعار الأدوية، وحققت مطلب تطبيق فرع الضمان الصحي عام 1971.

ولم تكن الحركة النقابية في تلك المرحلة التاريخية بمنأى عن التدخلات الخارجية وعن محاولات السلطة الحثيثة لإضعافها وبعثرة صفوفها، فدخل العديد من قادتها الأفذاذ السجون بتهمة العمل لإسقاط الأنظمة بالقوة. إلا ان تلك الملاحظات الظالمة لم تثن أولئك النقابيين الأبطال من متابعة النضال في أطر ديموقراطية متقدمة، وفي نقل الصراع من الأطر التقليدية المتخلفة الى أطر اجتماعية تهدف الى تحسين أوضاع الأكثرية الساحقة من اللبنانيين وتغليب الانتماء المهني على سائر الانتماءات. ولم يكن ذلك النضال سهلاً في ظل أنظمة حكم عربية مرتكزة على القمع والتسلط والفساد وكمّ الأفواه والهلع من ظهور حركات اجتماعية تهدف الى بث الوعي في نفوس المواطنين والعمل من أجل تحقيق أمنياتهم في العدالة والمساواة والتعبير الحرّ. إن القمع الذي الذي تعرضت له الحركة النقابية لم يكن قراراً محلياً بل محصلة لإرادات إقليمية ودولية همها الحفاظ على الأنظمة الفاسدة في هذه المنطقة والحيلولة دون التمثل بالنموذج اللبناني في النضال النقابي.

ومن خلال الممارسة النقابية اليومية والأدبيات العمالية تبرز بعض الثوابت التي ميّزت الحركة النقابية اللبنانية وأولها دعم النظام الديموقراطي البرلماني لأنه الإطار الأفضل للعمل من أجل تحسين أوضاع العمال والمستخدمين.
أما ثاني تلك الثوابت فكان الموقف المعادي للايديولوجيات القومية المتطرفة، ولا سيما الفاشية والنازية لأن من أهم أهدافها القضاء على الحركة النقابية وإقامة أنظمة توتاليتارية قمعية تنفي الحريات العامة والخاصة وتخدم عملياً أصحاب الرأسمال والنزعات الشعبية الخادعة.
الثابتة الثالثة هي رفض الطائفية بأشكالها المتنوعة والدعوة الى بناء مجتمع مواطني. ولم يقتصر هذا الموقف على خطاب سياسي فارغ المضمون بل تكرس عملياً من خلال الممارسة. ففي مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية كان 90 بالمئة من عمال المطابع مسيحيين ولكن هذا الواقع لم يحل دون انتخاب مصطفى العريس رئيساً لنقابة عمال المطابع ثم رئيساً للاتحاد العام لنقابات العمال والمستخدمين.
أما الثابتة الرابعة التي ميّزت العمل النقابي في لبنان فهي رفض العنف والإصرار على النضال الديموقراطي المرتكز على الإضراب والتظاهر والاعتصام والاحتجاج ولم تحد الحركة النقابية عن هذا الموقف رغم ما تعرضت له من قمع واستفزاز.
الثابتة الخامسة هي التأكيد على استقلال لبنان وسيادته وعدم التدخل في شؤونه مع إقامة علاقات تعاون وتضامن مع البلدان العربية المجاورة، والالتزام بالقضية الفلسطينية وضرورة إيجاد الحل الضامن لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة.
هذه هي باختصار شديد نقاط الارتكاز التي طبعت مسيرة العمل النقابي في لبنان وجعلت منه نموذجاً يحتذى به في بلدان هذه المنطقة.

و كانت فترة 1972-1974 ذروة نشاطات هذه الحركة، فانخرطت في نضالات المزارعين والعمال الزراعيين ودعمت تحركاتهم ومظاهراتهم في بيروت خاصة وفي سائر المناطق. وكانت مظاهرة الاتحاد الوطني لنقابات العمال في أيار 1974 الأكثر تعبيراً عن قوة هذه الحركة وفعاليتها في تجييش الآلاف من العمال والمزارعين في مظاهرة جابت شوارع بيروت تجاوز عدد المشاركين فيها ثلاثين ألفاً.

تنذكر و ما تنعاد

ثالثاً – الحركة العمالية خلال الحرب الأهلية وصولاً إلى اتفاق الطائف 1989

تتسم هذه المرحلة بتلقي الآثار السلبية للحرب الأهلية على الحركة النقابية. فالانقسام الطائفي والاقتتال الأهلي أصابها في الصميم وقلّص من دورها وفاعليتها بشكل واضح وملموس. تركّزت نضالات الحركة خلال هذه المرحلة على عدة محاور.

  • المحور الأول: السعي إلى الحفاظ على وحدتها ومنع تفاقم الانقسام الأهلي في بنيتها، والإبقاء على التواصل بين قادتها.
  • المحور الثاني: السعي إلى الوقوف في وجه حركة تسريح العمال والموظفين وإقفال المؤسسات الصناعية والمهنية في أعقاب الانهيار الذي أصاب البلد في قطاعاته الاقتصادية والاجتماعية والمالية.
  • المحور الثالث تركز على التحرك لمكافحة غلاء المعيشة وتحسين أوضاع العمال. في هذه المرحلة باتت مطالب الحركة النقابية متجاوزة للطبقة العاملة، بحيث باتت مطالب كافة فئات الشعب اللبناني من دون استثناء.
  • المحور الرابع تركز على النضال من أجل استمرار تقديمات الضمان الاجتماعي في فروعه المتعددة.

كان على الحركة النقابية في هذه المرحلة أن تواجه السلطة الرسمية وسلطات الأمر الواقع المتمثلة بسيطرة الميليشيات الطائفية في عدد من المناطق اللبنانية. خاضت معارك شرسة من أجل الحفاظ على وحدتها، وتحدت هذه السلطات بتنظيم تظاهرات عام 1988 شملت عمالاً ومواطنين من المناطق كافة وتجاوزت خطوط التقسيم المفروضة بين شطري بيروت آنذاك.

فالعوالم التي أدت الى اندلاع الحرب عام 1975 عديدة وفي طليعتها القضاء على خصوصية هذا البلد المتمثلة في حرية الرأي وفي النظام الديمقراطي البرلماني وهذا ما يتناقض تماماً مع أجواء الاستبداد المهيمنة على هذه المنطقة من العالم. وليس من قبيل الصدف أن تستهدف بالدرجة الاولى المؤسسات العامة والخاصة وفي طليعتها القطاعات التعليمية ومنها الجامعة اللبنانية والمؤسسات النقابية وعلى رأسها الاتحاد العمالي العام. وبالرغم من أساليب الترهيب والقمع استطاع الاتحاد العمالي العام ان يقود حملة واسعة ضد الحرب وضد الداعين والمروجين لها داعيا الى تظاهرات شارك فيها عشرات الألاف من المناطق اللبنانية كافة. وتعرضت تلك التحركات الشعبية الى قصف مدفعي مشترك من قوى الأمر الواقع. وبالرغم من الاجواء القائمة استطاعت الحركة النقابية ان تخطو خطوات كبيرة على صعيد وحدة العمل لا سيما من خلال هيئة التنسيق النقابية التي ضمت الاتحاد العمالي العام وروابط الأساتذة والمعلمين ورابطة قدامى موظفي القطاع العام والهيئات النقابية والمدنية وان تحقق الكثير من الإنجازات كرفع الأجور وتحسين الحماية الصحية والاجتماعية

إلا ان قوى السلطة مدعومة من دولة الوصاية استمرت في سياسة بعثرة العمل النقابي ووضع اليد على مؤسسة الاتحاد العمالي فعمدت خلافا للقوانين الى الترخيص لاتحادات نقابية وهمية لا تمثل أحداً بغية الإمساك بالقرار النقابي وإبعاد القوى العمالية الفاعلة العاملة فعلا لتحسين اوضاع العمال والمستخدمين. وأدت تلك السياسة الرعناء الى تعطيل دور الاتحاد العمالي والى إشاعة اليأس في النفوس بحيث فقد الاتحاد فاعليته وديناميته وقدرته على قيادة الحركة المطلبية وعلى تغليب الانتماء المهني والاجتماعي وتخطي الانتماءات الطائفية والمذهبية والمناطقية.

رابعاً – مرحلة ما بعد اتفاق الطائف

شكّلت الفترة الواقعة بين أيار 1991 وأيار 1995، ذروة الإعلان عن ولادة نقابات عمال واتحادات نقابية جديدة شكل موضوع انتسابها إلى الإتحاد العمالي العام مشكلة كبيرة في 24 نيسان 1997. وقد صدرت 8 تراخيص بتأسيس اتحادات، هي:

1. الإتحاد اللبناني لنقابات السيارات العمومية ومصالح النقل في لبنان.

2. إتحاد نقابات العمال والمستخدمين في الجنوب.

3. إتحاد جبل عامل لنقابات العمال الزراعيين.

4. إتحاد عمل النقابات الوطنية في الشمال.

5. إتحاد نقابات عمال ومستخدمي الصناعات الورقية في لبنان.

6. إتحاد نقابات عمال ومستخدمي صناعة الصلب الحديد في الجنوب.

7. الإتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في الجنوب.

8. الإتحاد العمالي اللبناني لنقابات التعدين ـ الميكانيك.

9. الإتحاد العام لنقابات العمال في جبل لبنان.

10. الإتحاد العام لنقابات المزارعين في لبنان.

و كان من الطبيعي أن تكون ولادة الإتحادات العمالية الجديدة مسبوقة بقرارات تأسيس نقابات لها، بما في ذلك نقابات لم تنتسب جميعها إلى اتحادات عمالية.

1. هنا يبرز رقم مذهل لعدد النقابات التي تأسَّست خلال 3 سنوات بتراخيص من وزارة العمل، إذ بلغ العدد 84 نقابة من أصل 269 نقابة قائمة فعلاً منذ الاستقلال، وبالتحديد منذ صدور قانون العمل اللبناني في 23 / 9/ 1946.

2. هذا لناحية النقابات الجديدة وتراخيصها. أما مسوِّغات التأسيس والترخيص لهذا العدد الهائل منها، فهي قطعاً غير موجودة، وقد يكون المسوّغ الوحيد، عدم الرغبة في أن تكون هناك مهن لا نقابات لها. وفي مطلق الأحوال، لا مسوّغ لهذا الكم الهائل من النقابات.

3. ولقد تعارضت سياسة “تفريخ” النقابات مع وجوب تعديل الهيكلية النقابية، إذ أن أي قانون جديد للهيكلية النقابية سيؤول حتماً إلى إعادة تأسيس الحركة النقابية، بدءاً من لجنة العمَّال على مستوى المنشأة الواحدة أو المصنع، مروراً بنقابة عمَّال المهنة الواحدة، فالإتحاد القطاعي ثم اتحاد المحافظة، وصولاً إلى الإتحاد العمالي العام.

4. إن ازدواجية المعايير التي اتبعتها الوزارة في تلك المرحلة، لم تكن عسيرة الفهم، ولم تخرج أساساً عن الخطة التي رسمتها السلطة لمصادرة دور الإتحاد العمالي، أو الإتحاد نفسه، والإتيان بقيادة غير فاعلة. وأصلا ً، لا يوجد أي خلاف داخل الإتحاد العمالي العام والحركة النقابية ككل، ولا بين الحركة النقابية ووزارة العمل، حول ضرورة تعديل قانون الهيكلية النقابية.

5. إن المسألة الخلافية المحورية بين وزارة العمل والإتحاد العمالي العام، ولا سيّما فريق القيادة في الإتحاد، لم تكن حول طبيعة تنظيم النقابات والإتحادات العمالية، ولا حول تركيبة الحركة النقابية حِرَفياً، بقدر ما كانت حول حدود تدخّل السلطة، ممثلةً بوزارة العمل، في الشأن النقابي الداخلي، ولا سيّما في تأسيس النقابات والإتحادات العمالية وانتخاباتها، والتصديق على الإنتخابات أو عدم التصديق عليها، والاطلاع على كشوفات النقابات والإتحادات الداخلية وسجلاتها، وصولاً إلى إلغاء الهيئات النقابية، وغير ذلك الكثير من الشؤون الهيكلية.



فيمكن وصف هذه المرحلة بأنها مرحلة التفكك والضعف والانهيار والإلحاق. اتسمت سياسة الحكم بعد الطائف بهدف رئيسي هو إلقاء القبض على الحركة النقابية وتطويعها وإلحاقها بالقيادات الطائفية وشل فعاليتها. مارست السلطة سياسة منتظمة في هذا المجال عبر تفريخ وإدخال نقابات واتحادات جديدة أساسها طائفي ولا تحوي في عدادها منتسبين من العمال. تدخلت في انتخابات الاتحاد العام، وحاولت فرض مرشحيها. مارست تقييداً على نضالات الحركة العمالية وقمعت حرية تحركها.
شكلت معركة الحريات النقابية والحفاظ على استقلالية الحركة النقابية عنواناً مركزياً خلال هذه المرحلة. وكانت التداعيات العامة لجهة تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية، والهيمنة الكاملة للطوائف وسيادة شعاراتها، وتشدد السلطة الحاكمة في منع التحرك، وإصرارها على إلغاء دور الحركة النقابية، إضافة إلى ترهل القيادات النقابية وتفريغ النقابات من العمال المنتسبين إليها، وكلها عوامل تضافرت لتجعل من الحركة النقابية اليوم حركة ضعيفة منقسمة على نفسها غير قادرة على النهوض وتجاوز الانقسامات الطائفية والأهلية التي تعصف بالبلد راهناً.

ففي لبنان، يوجد 52 اتحادا عماليا يضم ما يزيد عن 500 نقابة. وقد أدى هذا الانقسام في الحركة العمالية إلى ضعف قدرتها على التعبير عن مطالب أعضائها.

و لكن وصول الأحزاب السياسية والطائفية إلى سلطة القرار في الاتحاد العمالي العام جعله أداة سياسية تتحرك لخدمة أهداف بعض الأحزاب.

ويجيز قانون الجمعيات اللبناني لكل ثلاث نقابات وما فوق أن تشكل اتحادا. هذا الأمر فتح الباب أمام ولادات عشوائية للنقابات والاتحادات جعلت في القطاع الواحد، كقطاع النقل البري، ثلاثة اتحادات لكل منها اتجاه سياسي.

كما يتيح القانون لكل اتحاد عمالي مندوبين اثنين داخل المجلس التنفيذي للاتحاد العمالي العام بغض النظر عن عدد أعضاء الاتحاد.

فعلى سبيل المثال، اتحاد نقابات عمال الصناعات الورقية الذي يضم 142 عضوا يمثله مندوبان وفي الوقت نفسه اتحاد المصارف الذي يضم أكثر من 10 آلاف عضو يمثله أيضا مندوبان.

“المشكلة أن كل حزب في لبنان اليوم صار يطالب بحصته من الأعضاء داخل الاتحاد العمالي العام وأصبح الدخول للنقابات يتم لاعتبارات سياسية وطائفية وليس عمالية وهم ينفذون توجيهات أحزابهم من دون التطلع إلى مطالب العمال“.


أخيرا، في ظل هذه الظروف الخانقة ، نتطلع الى دور مميّز للحركة النقابية بغية تحرير الإنسان اللبناني من ايديولوجيات الذل والخضوع ومن الخرافات وما أكثرها!
وحده النضال النقابي قاد إلى الاسهام في بناء مجتمع متقدم يغرف من ثقافات الشرق والغرب ويعمل على الخروج من دائرة الخوف والاستسلام ويستلهم قيم الإنسانية العليا المتمثلة بالديمقراطية والعدالة والمساواة بين المواطنين.


إن لبنان ينوء تحت وطأة التناقضات في ظل طبقة سياسية نخرها الفساد وفقدت أبسط شروط القيادة، طبقة تنفذ ما يطلب منها بحيث أصبح الوطن مرهونا للخارج ومقيد الإرادة. وتعمل هذه الفئة عن طريق المال والتسلط والاعلام الخرافي على تحويل أنظار اللبنانيين عن قضاياهم اليومية الملحة: توحد القوة الشرائية، تعليم الاولاد في مؤسسات تربوية صالحة، تأمين السكن اللائق، توفير الضمانات الصحية والاجتماعية ليصبح الهم الاول والاخير كيف تتم عملية المحاصصة وأين حقوق هذه الطائفة أو تلك، وتلعب بعض وسائل الاعلام دوراً سلبياً في هذا الاطار إذ انها تشدد على التناقضات الهشة بين أركان السلطة في حين تسدل الستار على المشاكل الحقيقية للمجتمع اللبناني.


أمام هذا التردي المستمر لا بد من التساؤل حول وسائل الخروج من المأزق لاستعادة حياة اجتماعية سليمة ولإنقاذ لبنان قبل فوات الأوان.
الجواب هو في إعادة بناء حركة نقابية فاعلة ومستقلة وفي استعادة قوى المجتمع المدني لدورها التاريخي الغائب.


إن الشعب اللبناني مدعو لوعي خطورة الأزمة التي يجتازها، للتحرر ووطأة التفسيرات الوهمية والاسطورية، للعمل على بناء وطن جدير بالحياة والاستمرار.

فالنزاعات التي نشهدها اليوم هي ليست إلا لمصالح فئوية و أيديولوجية لا تراعي حقوق المواطن و تنمية وطنه لأجل تحقيق رفاهيته و إزدهار إقتصاده و بالتالي العيش حياة كريمة.


1 عدد الردود

التعليقات مغلقة